في عدد سابق، غير بعيد العهد، من الزوبعة صدر مقال بعنوان «جيلنا الـحاضر»، أتينا فيه باعتبارات في حالة الـجيل السوري الـحاضر وقواعد تفكيره وتصرّفه. وقد عرض الـمقال الـمذكور لـحادث جديد لم يشك الـمطلعون أنه حادث افتراق جبران مسوح عن عائلته لأسباب ظاهرها مقاومة عائلة جبران مسوح له «لانعكافه على الـحزب السوري القومي وإسرافه في البذل له.» وقد كان الزعيم مقتنعاً بأن غيرة جبران على الـحزب وارتداد عائلته عنه هما السبب في الشقاق بينه وبين عائلته، ولذلك دافع عنه تـجاه عائلته دفاعاً قوياً أنتج عداوة زوجة جبران مسوح وأولاده للزعيم. وإجابة لتحبيذ جبران مسوح وغيره من الرفقاء انتقل الزعيم إلى توكومان على أن يباشر عملاً صناعياً أو تـجارياً يؤمن له مركزه الاقتصادي ويكون نتاجه مساعداً على تغذية النهضة القومية الإصلاحية وسد بعض حاجاتها الـمادية. وكان هنالك مشروع صناعي رأى الزعيم إمكان استثماره للغاية الـمذكورة، ولكن الدرس الذي أجراه له أظهر بطلان «الاختراع» الذي ادّعاه من تقدم به إليه، وتـجاه هذه الـحقيقة أراد الزعيم العدول عن الانتقال إلى توكومان، إلا أنّ جبران مسوح، الذي كان حظي بـمنزلة سامية عنده، رغّبه في إتـمام الانتقال وعرض عليه الاشتراك في إنشاء محل تـجاري لأصناف الورق، عارضاً على الزعيم خبرته التجارية في هذا النوع. فانتقل الزعيم إلى توكومان لهذا السبب ولـما لم يتحقق الـمشروع الصناعي عقد شركة تـجارية مع جبران مسوح، يقدّم فيها الزعيم كل الرأسمال من قرض عقده مع إبن حميه السيد جورج الـمير، ويقدّم جبران مسوح خبرته وعمله. ومع أنّ جبران مسوح لم يدخل الشركة برأسمال فإن الزعيم، نظراً لثقته الكبيرة به جعله مساوياً له في حق استعمال إسم الشركة وتسلّم أموالها، ووافقه على الإقامة في الـمحل التجاري عينه، ووضع الزعيم وزوجته عناية كبيرة ومجهوداً شديداً في تنمية المحل وإيجاد منزلة محترمة له، وتـجوّل الزعيم بنفسه في الـمدينة لشق الطريق للمحل وكسب زبائن له، وقام جبران مسوح على الـمستعرض (الـمسترادور) وحركة البيع والصندوق.
لم تـمرّ أسابيع قليلة حتى تبيّن من الـمحادثات والـمجادلات والتصرفات العديدة أنّ لـجبران مسوح خطة أو غاية أو فكرة خصوصية في صدد الـمنشأة التجارية الـمذكورة. وبعض تصرفاته الـمثبتة بوثائق دلّت على شذوذ غريب عن جميع القواعد الـمرعية. من ذلك وضعه مال الشركة باسمه الـخاص في مصرف «كمرسيال» من غير استشارة زعيمه وشريكه صاحب الرأسمال، والـمثابرة على أخذ كل كمية متجمعة ووضعها باسمه الـخاص ولـحسابه في الـمصرف الـمذكور. ثم استفحال حسابه في البنك الـمفتوح بـمال الشركة الذي لا يخصه شيء منه، حسب نص العقد، إلا ما يصيبه من الأرباح، لإجراء معاملات مالية مستثمرة لـمصلحة الـمدعوة نبيهة الشيخ أنطكلي ودفع حسابات مالية عنها لبعض التجار الذين تتعامل معهم تلك الـمرأة، كما تثبت ذلك السندات التي تـمكّن من قطعها قبل أن يوقف الزعيم ذاك العمل الـخارج على الأصول، والـمعرّض حقوق صاحب الرأسمال ومصلحة الشركة للتلاعب.
تـجاه هذه الـحالة الغريبة وتصرفات جبران مسوح الشاذة رأى الزعيم أنه لا بد من إجراء تقويـمٍ سريع لـمعرفة حالة الـمحل، وتقرير النهج الذي يجب التعويل عليه، وكانت قرينته في زيارة لعائلتها في بوينُس آيرس، فصبر الزعيم إلى أن عادت زوجته وحال عودتها قرر إجراء التقويـم خلافاً لاقتراح جبران مسوح أن يذهب (مسوح) إلى بوينُس آيرس أو خوخوي. فإن الزعيم أراد الوقوف على حقيقة سير الـمحل قبل أن يتحرك جبران إلى جهة ما.
إبتدئ التقويـم على كره من جبران وفي ختامه تبيّن أنه لا أثر للربح، مع أنّ البيع كان جيداً ومعدل الربح بين خمسة عشر وعشرين بالـمئة. وليس ذلك فقط بل ظهر عجز في الـموازنة. ولـما تعيّن مبلغ العجز تعييناً أولياً تقريباً، وسأل الزعيم جبران مسوح عن سبب العجز وكيفية حدوثه وما تعليله، قال إنه لا يعرف وإنه قد استأجر غرفة خارج الـمحل لينتقل إليها، وإنه يريد الانسحاب. فلما رأى الزعيم تهرّب جبران مسوح وعدم فائدة الـجدل معه، طلب منه تقرير ما يريد حمله من الـخسارة، فقال إنه لا مال له ولا يقدر أن يحمل شيئاً من الـخسارة إلا إذا ترك الزعيم الـمحل التجاري له فهو حينئذٍ «يتحمل الـخسارة كلها» على طريقة أن يأخذ الزعيم بـمبلغ رأسماله بضاعة ويذهب يبحث عن مكان جديد يستأجره، ويسعى لفتح حسابات جديدة مع الـمحلات، وينتظر قدوم البضاعة ثم يسعى لـجمع زبائن جدد، وهذا يعني أن يكون رأسمال الزعيم وأتعابه وأتعاب زوجته لم يكن لها نتيجة غير خسارة الوقت والنفقات في تأسيس محل يتسلمه جبران مسوح وبعد ذلك فليدبّر الزعيم شأن عائلته!
وجـد الزعيم أنه بين إحدى مصيبتين: إما أن يتحمل كل خسارة العجز غير الـمبرر ويستقل بالـمحل وإما أن يخسر الـمحل ويتحمل إعداد أمر وتصريف بضاعة بـمبلغ رأسماله! وصار جبران مسوح يقول للزعيم «لنترك مسألة القضية والزعامة على حدة ولنتكلم تاجراً لتاجر»! كأن الزعيم كان يقصد مشاركة جبران مسوح بهذه الطريقة، وهو بعيد الاحتمال لأنه لو شاء الزعيم أن يكون اشتراكه وجبران مسوح تـجارياً بحيث يصرف النظر عن مبادىء الـحياة القومية ومناقبها وأخلاقها، التي كان جبران مسوح يتظاهر بالغيرة الشديدة عليها ويؤنب كل من يخالف توجيهات الزعيم فيها، لـما كان سمح لـجبران مسوح بحق استعمال إسم الشركة الـمؤسسة برأسماله وحده، ولا كان سمح له بتسلم الأموال ولا بالوقوف على الصندوق ولا بشيء من الـمسؤوليات الكبرى التي يجب أن تبقى من حق صاحب الرأسمال وحده.
لـما رأى الـزعيم أنّ جبران مسـوح لا يتزحـزح عن موقفه اختار أولاً أن يترك الـمحل ويسحب بـمبلغ رأسماله بضاعة متخلياً عن جميع أتعابه ونفقاته وخسائره الأخرى. ولكنه أظهر لـجبران مسوح أنّ هذه معاملة خسيسة، وأنه سيكون مضطراً للتعـرض لضياع وقت جديد ونفقات وخسائر أخرى لتأسيس محل آخر. فأجابه «الكـاتب الكبير» جبران مسوح: «ولكنك قد صرت تعرف الأصناف واكتسبت خبرة». أي أنه استعمل مع زعيمه ذات اللغة التي كان هو يصوّر قباحتها في كتاباته ليسلّي الناس ويرضيهم ويتظاهر بأنه من رجال روحية العهد الـجديد.
أما جبران مسوح فقد انكشفت حقيقة أمره في خلافه مع أهله. إنّ ذاك الـخلاف لم يكن من أجل الزعيم والقضية كما كان جبران مسوح يوهم. والآن يدرك أهل جبران مسوح أنّ تبذيره من محل إبنه أمين لم يكن في سبيل القضية القومية، وما كان أمر القضية القومية في الـخلاف الـمذكور سوى ستار جميل لأغراض ابتدأت تنجلي.
بعد خلاف جبران مسوح وأهله أمضى وإبنه أمين عقداً يعترف فيه أن لا حقوق له في محل إبنه، ويتعهد إبنه بتقديـم معاش شهري له مبلغه مئة وخمسون فاس. وهو مبلغ لا بأس به لرجل بلغ سن جبران مسوح. ولكن جبران مسوح كان يرى هذا الـمبلغ زهيداً غير كاف لأن له مطاليب ولذائذ في العيش لا يكفي لها هذا الـمبلغ. ولذلك وصل إلى أن يفكر في استخدام رأسمال زعيمه لتأسيس محل لنفسه يسد به حاجته إلى أكثر من 150 فاس شهرياً، ولذلك قال لزعيمه: إما أن تخسر وحدك العجز الذي وقع على الـمحل (ليتسنى لـجبران تـحقيق خطة تـجارية أخرى) وإما أن تترك لي الـمحل وأنا أدبّر «خسارته»!
هنا يتبادر إلى الذهن هذا السؤال:
ما هي حاجة جبران مسوح إلى أكثـر من الـمعـاش الـجيـد الذي خصصـه له إبنـه أميـن؟
منذ مدة والناس يتهامسون بعلاقات غرامية لـجبران مسوح بامرأة ما، وبعض الرفقاء كانوا على علم بهذه الشائعات، ولكن لم يخبر أحد منهم الزعيم بها، والزعيم لا يختلط بالـجماعات ولا يبحث عن مثل هذه الأمور، فبقي جاهلاً حالة جبران مسوح وظاناً أنّ كل خلافه مع أهله ناتـج عن جعل محل إبنه يدفع ثمن بضع كدسات ورق (رزم) لـ الزوبعة وكتاب الصراع الفكري. ولذلك شدد الزعيم النكير على عائلة جبران وأدَّى الأمر إلى عداوة شديدة بينه وبين أفراد عائلة رفيقه «الـمخلص الـمتفاني» جبران ودافع في جميع الـمواقف عن جبران ضد عائلته. ولكن الآن انكشفت الـحقيقة كلها. فجبران مسوح ساعد العمل الـحزبي مساعدات مادية ليست ذات بال، وقد بالغ الزعيم في إكرامه وتقديره ليس على نسبة تأدياته الـمادية بل على نسبة ما كان يظنه فيه من صفاء الطوية والتفاني في سبيل الزعيم والقضية التي أوجدها، بناءً على ما صرّح به جبران مسوح في عدة مواقف. ومن جملة أقوال جبران مسوح في هذا الصدد «قلت لعائلتي: الزعيم والقضية قبلكم». ولكن لـما صارت قضية الزعيم تعترض رغبة جبران في الوصول إلى موارد مالية بأية طريقة كانت حتى ولو كانت بتسخير الزعيم وزوجته، التي سهرت على إنقاذ حياته من الـموت، ورأسمال الزعيم، لم يجد جبران بداً من إسقاط قضية الزعيم والقول له: لنتكلم تاجراً لتاجر!!
عندما انفضح أمر جبران مسوح مع الزعيم، ابتدأت تظهر أدلة تلو أدلة على أنّ جبران مسوح لم يكن مخلصاً في ادعائه الـخلاف مع أهله من أجل الزعيم والقضية القومية، وأنّ مسألة القضية لم تكن سوى ستار لإخفاء حقيقة أسباب خلافه وعائلته، وأمر تبذيره السابق من محل إبنه لم يكن مقتصراً على دفع ثمن بضع كدسات ورق بل متناولاً كميات أخرى كان يظن خطأ أنها كانت تذهب إلى الـحزب، والـحقيقة أنها كانت تنفق على «جهل الكبر».
وجاءت مسألة وضع مال الشركة باسمه الـخاص في مصرف، وجعل حسابه في الـمصرف واسطة لقضاء أشغال امرأة وغير ذلك من الـحوادث العديدة التي برهنت على أنّ قلب جبران على غير القضية أولاً.
جميع هذه الأسباب جعلت جبران مسوح يفقد حقوقه الـمدنية والسياسية في الـحركة السورية القومية ويسقط من مصاف العاملين بروحيتها ومناقبها.
لا يوجـد مجـرم يحكـم عليه إلا ويجد القاضي مخطئاً ظالـماً ويجد جرائمه مبررة. ومن كبار الـمجرمين نوع يعرف كيف يتظاهر بأنه ضحية. ومنهم من يقبل الأحكام القاسية بصمت يدل على «كبر». ومهما يكن من أمر موقف جبران مسوح في هذا الصدد فإنه يؤسفنا أن تكون هذه نهايته.
وبهذه الـمناسبة لا بد من تكرار القول: إنّ نهضتنا هي نهضة أخلاق ومناقب في الـحياة قبل كل شيء آخر. فجميع أساليب الكلام الـجميل لا يـمكن أن تسد فراغ منقبة واحدة من هذه الـمناقب الصافية التي بها تبني الأمـم عظمتها.
أما الـمثالب فمهما كانت شديدة الـحيلة والتستر ومهما بالغت في الهرب من الإثباتات فلا نتيجة لها غير التدمير.
كنا نود أن يكون سقوط جبران مسوح غير هذا السقوط، فإن من السقوط ما هو مجيد ومنه ما هو حقير!